قضية الصراع العربي اليهودي
أحد المصادر الاخرى لازمه الشرق الاوسط، هو تشييد الدول القومية العربية واسرائيل بشكل متزامن. حيث استخدمت انكلترا الشيوخ العرب ككبش فداء، عندما باشرت بالتمشيطات العسكرية على الامبراطورية العثمانية بدءا من مطلع القرن التاسع عشر. كما استخدمت رجال الدين الارثوذكسيين ذوي الاصول الاغريقية في البلقان، وآزرت تشييد الدولة القومية اليونانية؛ مسرعة بذلك من انهيار الامبراطورية في بلاد البلقان.
قضية الصراع العربي اليهودي
عبد الله أوجلان
منشورات أكاديمية عبد الله أوجلان للعلوم الاجتماعية
الطبعة الأولى 2024
مطبعة الشهيد هركول
وفيما يتعلق بالخلاصة التي يمكننا استنباطها من وجود العديد من الجواري والزوجات لديه، فهي احتضانه هاتين النزعتين معا. لقد كان يعترف بالملكية والفوارق الطبقية في المجتمع. لكنه_ كشخص ديمقراطي اجتماعي_ كان يتطلع الى سد الطريق امام الاحتكار وبسطه النفوذ الاجتماعي، وذلك عن طريق الافراط في جباية الضرائب والاتاوات. ان نجاحه في ممارساته الاولى التي اعتبرت معجوزيه، قد عزز من ثقته بنفسه، هذا ويتسم طراز نشاط سيدنا محمد في المدينة المنورة بأهمية مضاعفه في موضوعنا. فالمكان المسمى بالجامع يؤدي في الحقيقة وظيفة المجلس الديمقراطي. فكل الاجتماعات التي تتداول جميع القضايا الاجتماعية وتبحث عن سبل الحل لها، كانت تعقد بداية في الجامع. وقد استمر الجامع بدوره هذا الى حين وفاه سيدنا محمد. اما طقوس العبادة (الصلاة، الصيام، والزكاة)، فتندرج في نطاق النشاطات التربوية الهادفة الى تعزيز الشخصية. لا أحد يمكنه انكار وجود انطلاقه كهذه في جوهره الاسلام. واضح وضوح الشمس انه احيا المجتمع الاخلاق والسياسي بدينامية وطيدة، وان كان بقطاء ديني محض. بناء عليه، فان أردنا الحديث عن حركه محمديه واسلاميه حقيقية، فعلينا ان نقول: “يستحيل انكار حقيقة كونها تمر من اعاده هيكله المجتمع الاخلاقي والسياسي بالتأسيس على الديمقراطية التشاركية بهدف تخطي قضايا ه الأساسية “. من المعلوم ان سيدنا محمدا أفرط في بعض ممارساته رغم تردده الكبير بشأنها. وبالأخص ما يتعلق منها بموضوع اليهود، ومسألة القبلة، وقتل جميع ذكور قبيله بني قريظة اليهودية بالسيف بسبب تحالفها مع أرستقراطية قبيله قريش على سبيل المثال. فلو انه وجد الحل السليم في هذا الموضوع، لربما كان بالإمكان حل التناقض العربي_ العبري آنذاك، ولكان الاسلام سيتقدم في خطاه أضعافا” مضاعفة.
الدول القومية العربية وهيكلة إسرائيل
أحد المصادر الاخرى لازمه الشرق الاوسط، هو تشييد الدول القومية العربية واسرائيل بشكل متزامن. حيث استخدمت انكلترا الشيوخ العرب ككبش فداء، عندما باشرت بالتمشيطات العسكرية على الامبراطورية العثمانية بدءا من مطلع القرن التاسع عشر. كما استخدمت رجال الدين الارثوذكسيين ذوي الاصول الاغريقية في البلقان، وآزرت تشييد الدولة القومية اليونانية؛ مسرعة بذلك من انهيار الامبراطورية في بلاد البلقان. وبدأت بنفس النشاط في شبه الجزيرة العربية المتواجدة جنوب الامبراطورية، والمتسمة بموقع استراتيجي على طريق الهند. اذ باشرت بدعم الدولتية القومية العربية، مستفيدة من مسانده الشيوخ الذين يمثلون قمة الهرم لعلماء الدين المسلمين. وكانت لها في نفس الوقت محاولات مثيلة مع زعماء الطرائق الدينية (وعلى رأسهم النقش بنديين والقدريين) المنحدرين من مدينه السليمانية عن طريق كردستان ايضا. واحكمت رقابتها طرديا على جنوب المملكة الايرانية. وهكذا، فأن المرحلة المبتدئة بالتمردات، قد استمرت مع انظمه الانتداب بعد الحرب العالمية الاولى، لتنتهي الى التشييد التام للدول القومية مع الحرب العالمية الثانية. وتم التصفية الامبراطورية العثمانية في تلك الاثناء، ليتكون (اوليتم تكوين) فراغ شاسع في المنطقة حصيلة ذلك. وبعكس ما فعلت في بلاد الهند، لم تستقر انكلترا في المنطقة كقوى استعماريه مباشرة. لكنها في الوقت عينه لم تترك ايه قوه منافسه. فهدفت الى تشييد الجمهورية التركية وهيكلتها بمعية انظمه الانتداب العربية ضمن ذلك الإطار (كان المحور الرئيسي للنقاشات الدائرة في مؤتمر سيواس متعلقا بالانتداب الانكليزي او الامريكي) وفي نفس التاريخ (1920). لكن السلوك الراديكالي، الذي سلكه الجبليون، اي روبسبيير ورفاقه في الثورة الفرنسية، ضد الملكية الدستورية البرلمانية التي كانت خطه انكليزيه)، قد صب النتيجة النهائية في مجرى الجمهورية. لكن، لم يتغير اي شيء مضمونا. فالأنظمة العربية تحت الانتداب كانت قد تحولت بعد فتره قصيره الى دول القومية مشابهه. وإطلاق تسميات المملكة او الجمهورية عليها لم يتغير من جوهره الدولتية القومية الصغرى. يصادف تسريع ولادة اسرائيل ايضا في هذه المرحلة. بالإضافة الى ما ذكر بشأن القبيلة اليهودية في الفصول السابقة، علينا التبيان مره اخرى ان جذور اسرائيل ترتكز على تلك القبائل وايديولوجيتها (الايديولوجية اليهودية والاديان التوحيدية والقوميات). اي ان اسرائيل في جوهرها نتيجة طبيعية لحروب الدولة القومية، التي اينعت في اعوام 1550 في هيئه دوله حديثه على خط امستردام_ لندن، واستمرت قرابة اربعه قرون، محولة اوروبا الى حمامات دم. ولطالما لعبت الميول الفكرية اليهودية وراس المال (الرأسمالية) اليهودية دورا رياديا في تشييد الدولة القومية. حيث كانت القناعة السائدة هي ان اليهود لن يتمكنوا من نيل حريتهم او من تأسيس دوله اسرائيلية يهودية على خلفيه المثل الصهيونية للقومية اليهودية المتصاعدة مع الوقت؛ الا بتمزيق اوصال الامبراطوريات الكاثوليكية والأرثوذكسية والاسلامية. وقد اينعت هذه النشاطات العقائدية الواعية والمنظمة عشيه واثناء وابان الحرب العالمية الاولى. ففي الاوساط المتمخضة عن بناء الدولة القومية للجمهورية التركية الصغرى على أنقاض الامبراطورية العثمانية، الى جانب بناء عددا جم من الدول القومية اليهودية اسرائيل رسميا 1948 والتي هدفت اليها الايديولوجية الصهيونية وكانت الجمهورية التركية اول دوله قوميه تعترف بها، وكأنها بذلك تؤكد جوهرها من حيث كونها اسرائيل بدئيه. تشييد واعلان اسرائيل ليس حديثا اعتياديا. فقد ولدت اسرائيل كقوة مهيمنه نواه لهيمنه الحداثة الرأسمالية، التي ملأت فراغ السلطة الناجم عن تحويل الامبراطورية العثمانية والملكية الايرانية الى دول قوميه صغرى تابعة، بعدما كانتا اخر قوتين مهيمنتين في المنطقة. وتشييد اسرائيل تقوموا هيمنه نواه امر بالغ الاهمية. فهذا مفاده انه سيتم الاعتراف بشرعيه الدول القومية الاخرى في المنطقة في حال اعترفت هي بوجود اسرائيل كقوى مهيمنه. وانه في حال عدم اعترافها بها، فسيجري تجييرها وارهاقها بالحروب الى ان تعترف بها. ونظرا لان الجمهورية التركية ومصر والاردن وبعض دول الخليج كانت اول من اعترف بإسرائيل، فقد اعترف بها دولا قوميه شرعية، وادرجت بالنظام القائم بناء على ذلك. في حين لا تنفك الحرب دائرة بين اسرائيل وحلفائها من جهة، والدول الاخرى المتبقية من الجهة الثانية. اما الحروب والاشتباكات مع العرب ضمن أطار القضية الفلسطينية، ومع البلدان الاسلامية الاخرى ضمن أطار اشكاليه الخليج؛ فهي على علاقة كثيبه بالوجود المهيمن لإسرائيل داخل المنطقة. اذ سوف تظل هذه الاشتباكات والمؤامرات والاغتيالات والحروب متأججة الى حين الاعتراف بهيمنة والسيادة اسرائيل. من هنا، لن نستطيع فهم اسباب انشاء اثنتين وعشرين دوله قوميه عربيه بمنوال صحيح، ما لم نفهم الهيكلة السيادية للحداثة الرأسمالية داخل الشرق الاوسط بعين صائبة. بمعنى اخر، محال تحليل الحداثة الرأسمالية، التي تم تأسيسها في الشرق الاوسط بعين سليمه من منظور الشروح التاريخية، اليمينية منها واليسارية، او الدينية والمذهبية، او الاثنية والقوموية للنزعة الاستقلالية لدى البرجوازية الصغيرة ذات الطابع الدولتي القومي. وتأسيسا” على ذلك، فأن أدراك القضية العربية كما هي في الواقع القائم (مثل ما الحال بشأن الادراك السليم لقضايا الجمهورية التركية والجمهوريات والجماعات التركياتية الاخرى)، يتطلب اولا الفهم الصحيح لموضوع بناء وتأسيس هيمنه الحداثة الرأسمالية في الشرق الاوسط. حيث لا يمكن فهم قضية ايه دوله او مجتمع بناء على الذهنيات المعنية بالتاريخ والمجتمع، والتي تستهزئ بالحقائق من قبيل “التشييد البهي للدولة القومية” الفلانية بمنوال مجرد ومنفرد. بالتالي، ومثل ما لا تتعلق القضية العربية بإسرائيل فقط، فانه لا يمكن اختزالها الى مستوى القضية الفلسطينية_ الاسرائيلية فحسب. في حين انا اعقد واولى القضايا التي تعاني منها المجتمعات العربية، تنبع قبل كل شيء من تقسيم العرب الى 22 دويلة قوميه. فهذه الدول الاثنتان والعشرون لا تستطيع الذهاب في دورها ابعد من كونها تنظيما عميلا جماعيا للحداثة الرأسمالية. ووجودها بحد ذاته يعد الاشكالية الرئيسية على الاطلاق بالنسبة للشعوب العربية. بالتالي، فالقضية العربية مرتبطة ببناء وتأسيس الحداثة الرأسمالية في المنطقة. ولا اشكاليه جديه الا في هذا الإطار، اي ارتباطا بإسرائيل بوصفها قوه مهيمنه في المنطقة ارتباطا بالحداثة الرأسمالية.
لكن، علينا ان لا نتغافل عن ان القوى التي شادت الدولة القومية العربية الاثنتين والعشرين. بالتالي، فتجاذباتها وتنافراتها مع اسرائيل تتسم بماهيه التمويه. ونظرا لتشاطرها النظام المهيمن عينه من حيث المضمون، فأن تناقضاتها معها لن تكون ذات معنى، مهما كانت جدية، الا إذا تجرأت على الخروج من إطار الحداثة الرأسمالية. والا، فكيف لك ان تنضوي تحت كنف هيمنه الحداثة الرأسمالية عينها، دون ان تعترف بإسرائيل! ان الدبلوماسية المقنعة والزائفة تنبع بالتحديد من انكار هذه الحقيقة. فجميع المقاربات الاسلامية القومية، التي يراد احلالها محل الحداثة الرأسمالية، هي محض رياء؛ سواء الاسلام الراديكالي منها ام الاسلام المعتدل ام اسلام الشيعة. فهذه النزعة الاسلامية اداه ايديولوجية خاصه بالرأسمالية، اذ تسلطها على البلدان الاسلامية في الشرق الاوسط، ولا علاقة لها بالحضارة الاسلامية. بل هي نسخه مشتقه من القومية المتصاعدة في كنف هيمنه الحداثة الرأسمالية اعتبارا من مطلع القرن التاسع عشر. والنزعات الاسلامية السياسية البارزة في القرنين الاخيرين، لا تتعدى كونها عمليه مقنعه للهيمنة الرأسمالية؛ لأنها صممت لهذا الغرض، ودفعت للحراك ارتباطا بالحداثة الرأسمالية. وبالأساس، فعجزها عن اداء دور يتخطى تجذير القضايا الوطنية والاجتماعية داخل منطقه الشرق الاوسط خلال القرنين الاخيرين، انما يؤيد هذه الحقيقة. وعليه، فهي تشكل العوائق الايديولوجية والسياسية الاساسية امام الكومونالية والوطنية الديمقراطية. اما الاسلام الثقافي، فهو موضوع مختلف. وتبني هذا الاسلام والدفاع عنه ارتباطا بالتقاليد له جانبه الثمين والايجابي. اذ لم يتخط تبعيته للحداثة الرأسمالية، فلن يتخلص الصراع العربي _الاسرائيلي او الفلسطيني _الاسرائيلي من التشبه بصراع الفار والقط. فما يتجلى في النتيجة هو هدر طاقة الحياة لدى الشعوب العربية قاطبه في معمعان هذه الاشتباكات الواضحة النتيجة سلفا”، والتي تدور رحاها قرابة قرن بأكمله. ولو لم تفتحل هذه الاشتباكات والصراعات، لكان هناك وطن عربي نظير لعشره امثال اليابان من حيث وارداته النفطية فقط. اهم نتيجة نستخلصها من هذا التشخيص، هي ان منهجيه الدولة القومية في الشرق الاوسط ليست منبع حل للقضايا الوطنية والاجتماعية الاساسية حسب ما يزعم. بل انها منبع تصعيد وتجذير وتفاقم وعقم هذه القضايا، بل تنتجها. بل وابعد من ذلك، فالنظام نفسه لا يقتصر على تأليب دول الشرق الاوسط على بعضها بعضا. بل انه وسيله لتأجيج النزاعات بين مجتمعاتها ايضا الى ان تخور قواها. وحقيقة العراق تؤكد مصداقيه هذا التشخيص بأحسن صوره. لا نستطيع القاء الحمل كليا هنا على عاتق الحداثة الرأسمالية. ذلك ان الهيدروجيات الاسلاموية واليسارية (الاشتراكية المشيدة) والتنظيمات السياسية البارزة بصفتها تحرريه ومناسبه لحل القضية، مسؤولة هي ايضا عن ذلك، بقدر العناصر الحاملة للحداثة الرأسمالية على الأقل (الجون ترك، الجون كورد، الجون عرب، والجون فرس). فكيف ما ان اي اسلوب او منهاج اقترحته على شعوبها منذ حوالي قرن من الزمان لم يسجل اي نجاح يذكر، فأنها لم تتمكن من لعب دور يتعدى خدمه بناء الحداثة الرأسمالية اقليميا”، وتوظيف نفسها لهذا الغرض. ولا يمكننا انكار دور هذه الحقائق، تأسيسيا” على ايديولوجيات الدولتية القومية العربية والتنظيمات السياسية ايضا. القضايا العربية ايضا كالقضية التركية، ليست عصيه على الحل. اذ تدور مساعينا هنا لتحليل القضايا على محورين رئيسيين: يعتمد المحور الاول على مضاعفه الحصه من اجهزه الدولة والمجتمع تحت كنف النظام القائم، وعلى افتعال النزاعات اللازمة بغية حصد النتيجة المرجوة. هذه هي النتيجة التي تطلعت الدول القومية العربية _بما فيها منظمه التحرير الفلسطينية _للوصول اليها عبر الاشتباكات التي جربتها طيلة العقود الخمسة الاخيرة. وسيعمل على اتمام هذا المحور عاجلا ام اجلا، عن طريق معاهده شبيهه بمعاهده كامب ديفيد المبرمة مع مصر. لكن هذا الطريق لا يعني أكثر من زيادة وطاه القضايا الاجتماعية العربية، وحملها بالتالي على اتباع الحلول الراديكالية. قد يحظى هذا الطريق برضا الدول القومية العربية الاوليغارشية، التي تسند ظهرها الى البترول. ولكنه لن يستطيع البتة تلبيه مطالب شعوبها الاقتصادية والديمقراطية الأكثر عمقا”.
يتبع….