تقييمات القائد عبد الله أوجلان فيما يخص الجينولوجيا
محال أن يكون العالم أقل مسؤولية إزاء المجتمع من ذلك المعنى بشؤون الدين أو الأخلاق. فما دام العلم يشكل قوة معانٍ، أو أرفع مستوى مقارنةً بالميثولوجيا والدين والفلسفة، إلى جانب إنجازه ثورته وإعلانه انتصاره في القرن السابع عشر، فلماذا إذًا عجز عن إبداء قدرته وتفوّقه هذا تجاه ظواهر الحرب والاستغلال
تقييمات القائد عبد الله أوجلان
فيما يخص الجينولوجيا
إن العلم الذي سيتطور متمحورًا حول المرأة سيكون الخطوة الأولى نحو علم اجتماع سليم. إن القدرة على الفهم تعني الحياة، مثلما أن هدف القدرة على الحياة هو الفهم. ولا أعتقد بوجود تفسير شديد آخر للكون فيما عدا ذلك. وبالرغم من أن المعنى المطلق صعب المنال لدرجة تكاد تكون مستحيلة، إلا أنني مصرٌّ على كونه الواقع الذي يُمكّن من تدفّق الحياة وديمومتها. ما من قوة أقوى من قوة المعنى، أو لنقل: إنه ما من قوة ستنجو من السقوط إلى مستوى استعراض قوة زائفة حيال قوة المعنى. ولا يمكن الحديث عن الحياة في مكان يخلو من المعاني – هذا إن كنا لا نعتبر عملية التنفس وحدها حياة، بالطبع. كان سبينوزا قد قال: “الفهم حرية”، وأنا أيضًا أؤمن أن لا حرية سواه. فتحرّري بقدر قدرتي على الإدراك هو أعظم قوة أتسلح بها لأجل الحياة. إن فلسفتنا تعي الحياة وتدركها ككلٍّ متكامل، بدءًا من استشفاف المعاني المخفية في عيني حصان، وصولًا إلى تحليل المعاني الكامنة في تغريدة عصفور. وهي فلسفة تُضفي المعنى على كل شيء: بدءًا من التقدير والاحترام الكبير لحكيم عجوز، وصولًا إلى الرد على الطموحات المخفية في عيني فتاة يافعة مرتعدة كغزال خائف. كما أنها تعمل أساسًا بالعلم الذي يسعى إلى تحليل دوافع الجهل الفظيع الكامن لدى الإنسان وفي النظم السلطوية المهيمنة بشأن إنجاب الأطفال، والذي هو ثمرة مفهوم جنساني أنكَى وأفتك من الإبادة الجماعية، والذي يجهد أيضًا لتحليل كافة حلقات تطور الطبيعي للحياة متمثلًا في ذاته. ثمة تراكم في المعنى راقٍ للغاية ضمن الطبيعة الاجتماعية في الكون، في المادة، فالأنسجة، والأعضاء، والبنى، والأنظمة الاجتماعية تحدد مضمونًا من حيث المعنى. فالمجتمعات التي حققت بمعانيها أفضل لغة، وكلام، وبنية، تبلغ بذلك تعريف المجتمعات الأرقى، أي إنها مجتمعات بلغت مستوى رفيعًا من التحرر. والمجتمعات الحرة هي تلك التي تعي ذاتها، ويعلو صوتها، فيكون جهورًا، وتكون ضليعة في التعبير عن نفسها، وتبني ذاتها بمناوِل متعددة الجوانب بما يتوافق واحتياجاتها. أما المجتمعات المفتقرة إلى الحرية – وعلى النقيض من ذلك – فهي تلك العاجزة عن تطوير لغتها اللازمة للتعبير عنها علنًا، وعن بناء ذاتها بنحوٍ متعدد الجوانب. يشكّل تقييم المعنى الاجتماعي وتقدّم الحقيقة على مدار العصور – ضمن هذا الإطار – صُلب علم الاجتماع المتنامي طيلة العصور على وعي الإنسان. أي بإمكاننا تسمية عمل التعبير عن النفس، عن طريق السبل الميثولوجية، والدينية، والفلسفية، والفنية، والعلمية، على أنه عمل تقصّي الحقيقة والتعبير عنها. فالمجتمعات ليست نسيجًا من الحقيقة فحسب، بل هي قوة إظهارية وتوضيحية في الوقت عينه. ومن يعجز عن إظهار حقيقته، فإنه يدل على أهلك أوضاع العبودية والصهر والإبادة. وهذا ما يشير بدوره إلى السقوط في وضع أقرب ما يكون إلى ضرب الانقطاع عن الوجود، وإلى الخروج من كونه واقعًا قائمًا. والمجتمع، بل وحتى الفرد الذي بلا حقيقة، يعني أنه بات كائنًا بلا جدوى أو معنى. وفي هذه الحال، ثمة عُرى وثيقة بين المعنى والحقيقة. فالمعنى بمثابة ضرب من الطاقة الكامنة للحقيقة، وكلما تم التعبير عن هذه الطاقة الكامنة، وتم التحدث عنها وبناؤها بحرية، ستكون قد بلغت حالة الحقيقة. إن العلوم الاجتماعية التي أريد تطويرها بمفهوم العلم الوضعي – أو بتعبير آخر: بباراديغماه – قد بقيت عالقة في دربٍ مشدود. وإلا، ففي حال عدم القبول بهذه الحقيقة، فلن نستطيع إيضاح ظاهرة الاستغلال المستشرية، والحروب المتصاعدة إلى هذه الدرجة.محال أن يكون العالم أقل مسؤولية إزاء المجتمع من ذلك المعنى بشؤون الدين أو الأخلاق. فما دام العلم يشكل قوة معانٍ، أو أرفع مستوى مقارنةً بالميثولوجيا والدين والفلسفة، إلى جانب إنجازه ثورته وإعلانه انتصاره في القرن السابع عشر، فلماذا إذًا عجز عن إبداء قدرته وتفوّقه هذا تجاه ظواهر الحرب والاستغلال؟ من المقدور الإشارة إلى سلطوية العلم كسبب أساسي في ذلك. فعندما يغدو العلم سلطة، يفقد حريته دون بُد. فحسب رأيي، فإن الضرر الأكبر الذي ألحقته الرأسمالية هو قضاؤها على معنى الحياة، أو بالأحرى هو ارتكابها الخيانة الكبرى بشأن علاقة الحياة مع مجتمعها وبيئتها. وبطبيعة الحال، فإن النظام المدني المتستر وراءها أيضًا مسؤول مثلها عن هذا الوضع. يُقال إننا نعيش في عصرٍ وصل فيه العلم والاتصالات أوج قوتهما، إلا أن عجز العلم حتى الآن عن تعريف الحياة وأواصرها الاجتماعية، رغم تطوره الخارق، إنما يثير الذهول إلى حد بعيد. إذاً، ينبغي حينها طرح السؤال: هو علم ماذا؟ ومن أجل من؟ وكلما صيغ جواب هذين السؤالين، فستُفهم دوافع عدم رد العلمويين الاجتماعيين على السؤال الأساسي، أي على سؤال: ما هي الحياة؟ وما علاقتها مع المجتمع؟ قد يبدو هذا السؤال بسيطًا للغاية، ولكنه ثمين في معناه بقدر حياة الكائن المسمى بالإنسان. فما هي قيمة الإنسان ما لم يفهم ذلك؟ ففي هذه الحالة، بوسعنا الحديث عن تحوّله إلى مخلوق قد تكون حياته أدنى قيمة من حياة حيوان أو حتى نبات ما. فالبشرية التي لا تعرف معناها وحقيقتها مستحيلة الوجود، وإن وجدت، فستكون الأكثر انحطاطًا ووحشية على الإطلاق. لم تُطوّر الرأسمالية العلم، بل استثمرته. إن تسخير العلم في خدمة السلطة بهدف جني الربح لا يقتصر على التمخّض عن أشنع الأوضاع أخلاقيًّا، بل ويُعمّم ظاهرة هيروشيما، ويقضي على الحياة القيّمة. فهل الحياة الإعلامية والمحاكاة انتصار للعلم؟ أم أنها انتهاء المعنى في الحياة؟ لا أتحدث هنا عن التكنولوجيا والاكتشافات والاختراعات العلمية، بل عن إيضاح عدم كون المدرسة الوضعية علمًا، وذلك لأنها دينٌ علموي. إن العلم الذي يجعل من المدنية الأوروبية مركزًا له، تكون أزمته بنيوية، معنية بالتطوّرات الحاصلة في مراحل مطلع المدنية، ذلك أن تمركز العلم في المعبد يعني التحامه مع السلطة. ثمة عدد جمّ من الأمثلة التي تُثبت أن العلم في المدينتين المصرية والسومرية كان جزءًا لا يتجزأ من السلطة، فمؤسسة الرهبنة التي لَمّت شمل العلم كانت أصلًا بمثابة الشريك الأهم للسلطة، علمًا أن بُنيات العلم في العهد النيوليتى كانت مختلفة. فمعلومات المرأة حول النبات ربما كانت قد رصفت أرضية البيولوجيا والطب، فضلًا عن أن رصدها للفصول والقمر كان يُظهر إلى الوسط ضرورة القيام بعمليات الحساب. بالإمكان، وبكل يُسر، شرح ذلك بأن ممارسة الحياة العملية الممتدة على مدى آلاف السنين في مجتمعات الزراعة القروية قد أبرزت خزانة عظمى من المعلومات والمعرفة، لكن هذه المعارف جُمعت في عهد المدنية وصُيّرت جزءًا من السلطة، وقد شوهد تحوّل نوعي هنا بالمعنى السلبي. وإذا عرفنا العلم بأنه التفسير الأرقى للمعاني، فإما أن يكون تكامل العلم مع السلطة بهذه السرعة هزيمة نكراء باسم العلم، أو أن هناك إشكالات جادة معنية بالمعنى فيما عُرف على أنه علم. النتيجة الأهم التي ينبغي استخلاصها من ذلك هي مدى حاجة العلم الماسة إلى إعادة تفسير معانيه. ثمة حاجة ماسة للعلم بثورة براديغمائية جديدة، والعلم الذي سيُطوَّر من الضروري ترتيبه على شكل “علم اجتماع” بالدرجة الأولى. وينبغي الاعتراف بعلم الاجتماع بصفته الإلهة الأم لجميع العلوم، بينما العلوم الأخرى المعنية بالطبيعة الأولى (الفيزياء، علم الفلك، الكيمياء، البيولوجيا) والمعارف والعلوم البشرية المعنية بالطبيعة الثانية (الآداب، الفلسفة، الفن، الاقتصاد وغيرها) لا يمكنها البتّة أن تتميز بمرتبة الريادة، لأنها عاجزة عن عقد الأواصر القيمية مع الحقيقة لن يكون بمقدور كلتا الساحتين أخذ نصيبهما من الحقيقة ما لم تعقدا علاقتهما مع علم الاجتماع بنجاحٍ موفق. كانت المعرفة والعلم جزءًا من المجتمع الأخلاقي والسياسي، سواء ضمن المجتمع ما قبل المدنية أو في المجتمعات المناهضة لها في عهدها، حيث لم يكن ممكنًا استخدام العلم بشكلٍ آخر ما دامت المصالح الحياتية للمجتمع لا تقتضي وجود المجتمع وصونها وتغذيتها، ولم يكن ممكنًا تصور هدفٍ آخر له. إلا أن المدنية غيرت هذا الوضع جذريًا، حيث فصلته عن المجتمع بتأسيس احتكارها للمعرفة والعلم. وبينما حُرِم المجتمع من المعرفة والعلم، فقد تعززت السلطة والدولة بهما قدر المستطاع، إذ وطدتا احتكاراتهما باتباع منتجي وحاملي المعرفة بالسلالات الحاكمة والقصور. هكذا كان مفاد ذلك الفصل الجذري للعلم عن المجتمع، وبالأخص عن المرأة، وفصل أواصره عن الحياة والبيئة أيضًا. وفي الوقت نفسه، كان الانقطاع الجذري للأواصر التي كانت تربط بين الذكاء التحليلي والذكاء العاطفي يزداد، والمسافة الشاسعة الفاصلة بينهما تتعاظم بالتزامن. بناءً عليه، فالتركيز على ظاهرة المرأة وإسناد أنشطة الحرية والمساواة إلى حقيقة المرأة لدى الشروع بتحليل القضايا الاجتماعية ينبغي أن يكون أسلوبًا بحثيًا رئيسيًا من جهة، وأرضية للجهود العلمية والأخلاقية والجمالية المبدئية من الجهة الثانية. ذلك أن أسلوب البحث الذي تغيب فيه حقيقة المرأة وكفاح الحرية والمساواة، والذي لا يتخذ من المرأة محورًا له، لن يقدرا على بلوغ الحقيقة، ولا على نيل الحرية وتوطيد المساواة. يتوجب رؤية المرأة كاختزالٍ للنظام القائم برمته، وتحليلها وفقًا لذلك. فكيفما يكون المجتمع الرأسمالي امتدادًا لكافة المجتمعات الاستغلالية القديمة ويشكل ذروتها، فالمرأة أيضًا تعيش ذروة التأثير الاستعبادي لكل هذه الأنظمة. وبدون فهم المرأة المتشكلة ضمن الطوق الخنّاق لقمع واستعمار المجتمع الهرمي والدولة الأقدم والأكثر كثافة على الإطلاق، لا يمكننا تعريف المجتمع على نحوٍ صحيحٍ وصائب. كذلك، فالفهم الصحيح للعبودية الإثنية والقومية والطبقية يمرّ من تعريف المرأة. تعود البحوثات المتعلقة بالمرأة، والتي سعى علم الاجتماع لتمحيصها ودراستها كمواضيع علمية بحد ذاتها، إلى الربع الأخير من القرن العشرين، ولكنها تحتل حيزًا بسيطًا ومحدودًا للغاية في العلم، بحيث لا يمكن إخفاء عيوب وفشل تلك الدراسات، تمامًا مثلما لا يمكن إخفاء المزراق في كيسٍ صغير. لقد بدأت الحركات الفامينية والبيئية بالحثّ على التفكير في الخصائص الجنسية للتاريخ والهيمنة والدمار المروّع الناجم عن الحروب والسلطة. تشير هذه النقطة إلى السمة الجنسوية لكل البنى العلمية، بما فيها علوم الاجتماع، التي يجب أن تكون أكثر موضوعية. إنها جنسوية العلم، وتاريخه المدني هو في الوقت نفسه تاريخ خسران المرأة. فهذا التاريخ بآلهته وعباده، بحكّامه وأتباعه، باقتصاده وعلمه وفنه، هو تاريخ رسوخ شخصية الرجل المسيطر. بالتالي، فخسران وضياع المرأة يعني التهاوي والضياع الكبير باسم المجتمع. والمجتمع المتعصب جنسيًا هو ثمرة هذا السقوط والخسران، فالرجل المتعصب جنسيًا يتميز بجشعٍ كبير لدى بسطه نفوذه الاجتماعي على المرأة، لدرجة أنه يحوّل أي تماسٍ معها إلى استعراضٍ للسيطرة، إذ سرت علاقة السلطة باستمرار على ظاهرة بيولوجية كالعلاقة الجنسية، فالرجل يشعر بنشوة الانتصار على المرأة لدى مضاجعته لها. من الواضح جليًا كيف تؤثر العلاقة بين الجنسوية والسلطة على المجتمع، فحتى في يومنا هذا، يتمتع الرجل بحقوق لا معدودة على المرأة، بما فيها حق القتل كواقعٍ سوسيولوجي قائم، وتُمارس تلك الحقوق يوميًا، وتتسم العلاقات بالتالي بطابع الاعتداء والاغتصاب بنسبة ساحقة. إدراك كافة أشكال ومضامين مستوى العبودية التي شُربت حياة المرأة بها على مدى آلاف السنين بيد الرجل وعقله الاستبدادي والاستعماري، أمرٌ كان يتوجب اعتباره أول خطوة على درب سوسيولوجيا الحقائق. ذلك أن معالم العبودية والاستغلال في هذا الحقل نموذج بدئي مصغر عن كل أشكال العبودية والاستغلال الاجتماعيين، والعكس صحيح، أي إن كفاح الحرية والمساواة إزاء العبودية والاستغلال المضمنين في حياة المرأة، ومستوى المكاسب المحرزة في هذا الكفاح، يشكل أرضية كفاح الحرية والمساواة تجاه العبودية والاستغلال في جميع الميادين الاجتماعية. من هنا، فالعجز عن الفهم الكافي لمؤسسات وذهنيات العبودية والاستغلال التي طُعّمت بها حياة المرأة ورُسمت ملامحها بموجبها، وعدم اتخاذ الكفاح ضدها أساسًا، إنما يُعد التعامل الأولي الكامن وراء عدم التمكن من تطوير النضال بخطى شديدة على درب الحرية والمساواة، ووراء العجز عن الانتهاء بذلك النضال إلى نصرٍ مؤزر طيلة التاريخ المدني عمومًا، والحداثة الرأسمالية خصوصًا. ألا يقولون إن السمك يفسد من رأسه؟ إذا، وعندما لا تكون الأرضية قويمة سليمة، فالبناء الذي سيُشاد عليها لن يتخلص من الانهيار مع أي ارتجاج صغير، والواقع المَعيش تاريخيًا وراهِنًا مليء بعدد لا حصر له من الأمثلة الدالة على ذلك. سيكون من الأفضل تحرير عالم المرأة بتفعيل الذكائين التحليلي والعاطفي معًا. يتحتم على المرأة إعادة النظر في الميثولوجيا، والفلسفة، والدين، والعلم، وتناولها بذكاء المرأة الخاص والحر، وإدخاله حيّز التنفيذ بموجبه. أما التوجه نحو النظرية والممارسة العملية بذكاء المرأة، فربما يُوصلنا إلى عالمٍ قريبٍ إلى الطبيعة، سلمي وآمن، تحرّري وعادل، وإلى حياةٍ مفعمة بالجماليات، بنحو أسمى معنى.
يتبع …