القضايا الاجتماعية
إن دمار البيئة والمجتمع الناجم عن الأرباح الطائلة المروعة التي تجنيها الحداثة الرأسمالية بواسطة العقل الرمزي، وبالأخص مع سيادة الرأسمال المالي العالمي في العصر القريب، لا يمكن فهم مبرراته بأي شرط من شروط الشرعية الاجتماعية.
عبد الله أوجلان
القضايا الاجتماعية
مقتطفات من مرافعة “سوسيولوجيا الحرية”
منشورات لجنة بحوث العلوم الاجتماعية في أكاديميات المجتمع الديمقراطي.
مدخل
من المحال تقييم فرص الحل لأي قضية متعلقة بالمجتمع بما يليق بها، دون استيعاب العناصر والقوى الكامنة بين مستوى ذكاء النوع البشري والمرحلة الاجتماعية الخاصة به.إن قياس الطاقة الكامنة لمستوى الذكاء في مرحلة الإنسان كنوع قد يكون موضع مضاربة من حيث البداية، أو ربما لا يكون، ولكننا وجهاً لوجه أمام ذكاء مختلف جداً، ويتبين ذلك بوضوح لا تشوبه شائبة من خلال ظاهرة الحرب السائدة طيلة التاريخ البشري، والتي بلغت بالبيئة إلى حافة الدمار الكامل في ظروفنا الراهنة.وتتضح استحالة سد الطريق أمام الدمار الإيكولوجي والاجتماعي بمجرد الاقتصار على التحليلات الطبقية، والوصفات الاقتصادية الجاهزة، والتدابير السياسية، والتراكمات الأعظمية للسلطة والدولة. بل، وكان ذلك مبرهناً فعلاً ساطع مدى حاجة القضية لتناول أكثر جذرية.لا شك أنه تم التركيز دوماً على قوة العقل طيلة العصور، وأنا لا أقول شيئاً جديداً هنا، بل أسعى لتبيان أن لفت الأنظار إلى جانب مختلف من العقل بات مهماً أكثر من أي وقت مضى.الروابط بين العقل والمجتمع بائنة، واستحالة تطور العقل دون تطور المجتمع إنما هو أمر يدركه كل راصد عادي للتاريخ.الأمر الواجب استيعابه أساساً هو: ضمن أية شروط اعترف الوجود الاجتماعي بشرعية العقل؟إن دمار البيئة والمجتمع الناجم عن الأرباح الطائلة المروعة التي تجنيها الحداثة الرأسمالية بواسطة العقل الرمزي، وبالأخص مع سيادة الرأسمال المالي العالمي في العصر القريب، لا يمكن فهم مبرراته بأي شرط من شروط الشرعية الاجتماعية.وبالعربي الصحيح، أي شكل من أشكال المجتمع الأخلاقي والحر والسياسي لا يمكنه المصادقة على نهب واستغلال العقل الرمزي. حسناً، كيف، وبواسطة أية يد أو ذهنية أو أداة، مُزّقت سدود الشرعية الاجتماعية إرباً إرباً؟ومقابل قوة العقل التدميرية، لمن يعود دور البناء والترميم والتقويم؟ وبأية قواعد ذهنية وأدوات ملموسة تتجسد مسؤولية تطبيق هذا الدور؟هذه القضايا مصيرية وتنتظر ردودها بكل تأكيد.تبرز جميع الانطلاقات الفكرية الهامة على مر التاريخ كثمرة لمرحلتين:فالمراحل التي شهدت جريان النظام في مجراه، والرفاه الاجتماعي المقنع، وغياب المشاكل الكبرى، إنما تعكس تطورها الفكري بمنوال مشابه.إنها الأفكار التطورية الواهبة للرفاه، والقليلة المشاكل، بالتالي فهي مطمئنة بالأمن والاستقرار، وتتحدث حفيظا عن الديمومة والثبوت، وتعتبر المشاكل العرضية مؤقتة وسريعة الزوال، كما أنها تتناول الطبيعة الأولى في الأغلب، في حين لا تود النقاش حول الطبيعة الاجتماعية.أما المراحل التي تشهد انسداداً في النظام وعجزه عن السير كالسابق، فالأفكار فيها مثقلة بالمشاكل، وتتناول الطبيعة الثانية في الأغلب.هذه المراحل هي نفسها التي تتسارع البحوث الدينية والفلسفية الجديدة خلالها، حيث يتم البحث عن الخلاص من المشاكل من خلال الأفكار الجديدة، أي البحوث الدينية والفلسفية.مثلما أن رصد تاريخ الفكر ضمن آفاقه التاريخية يعرّفنا على المشاكل الاجتماعية، فمن المحال ألا نشعر حتى النخاع بوطأة أبعاد المشكلة المتضخمة جداً أثناء رصدنا لمجتمعنا الراهن.إني أسعى للتفكير دون الالتزام بعلم الاجتماع الأوروبي المركز، إدراكاً مني للضرورة القصوى لهذا النمط.لا شك أن البعض سيحكم على هذا النمط الفكري بكونه بسيطاً ومنحرفاً عن العلوم الاجتماعية، لكني لن أكترث بهذا الحكم، فعلم الاجتماع الأوروبي المركز مفعم فعلاً برائحة الهيمنة والتحكم، فإما أن يجعل المعني مسيطراً أو يدرجه تحت السيطرة.بيد أن ما يلزمنا هو كينونة الذات الديمقراطية والمشاطرة العادلة، بينما علم الاجتماع الأوروبي ليبرالي بمضمونه.إنه أيديولوجيا بحد ذاته، لكنه أخفى واقعه هذا لدرجة إبدائه القدرة على الإعجاب بأفكار منتقديه العظام المعارضين له، عارضاً بذلك مهارته العليا في التوفيقية المتفصلة.إني واعٍ لعدم وجود خيار أمامي سوى تطوير الفارق المميز لقوتي في التحليل، كي لا أجعل من ذاتي ضحية لتلك التوفيقية. لكن هذا الموقف لا يعني مناهضة أوروبا، ذلك أن مناهضة أوروبا أيضاً جزء من الفكرة الأوروبية المركز.بل أطور موقفي انطلاقاً من القناعة بكون أوروبا كائنة في الشرق، والشرق كائن في أوروبا، ومدركاً أن بعضاً من قيمنا كونية شاملة.فالعديد من قيم أوروبا هي عبارة عن الحالة الراهنة والمطورة لقيمنا الذاتية.علينا الإدراك بأفضل الأشكال لنقطة أخرى، ألا وهي أن أغلب المنادين بمناهضة أوروبا باتوا من الموالين الأكثر تخلفاً لليبرالية الأوروبية.وممارسات الاشتراكية العلمية والتحرر الوطني مليئة بهذه الأمثلة.كانت قد طورت تجارب الاشتراكية العلمية لكل من ماركس وإنجليز كحل للمشكلة الاجتماعية القائمة في عهدهما، وكانا مؤمنين بذلك من الصميم.أي إن إيمانهما كان تاماً بشأن تعريفهما للمشكلة، وقيامهما بذلك بتحويل الرأسمالية إلى مصطلح على شكل نظام، وكيفية وجوب الحل لدى الوصول إلى النظام الاشتراكي. وهكذا، كانت الاشتراكية العلمية التي طوراها ضماناً لذلك.لكن التاريخ تطور بمنوال مختلف، واليوتوبيون السابقون لهم أيضاً كانوا يحملون آمالاً مشابهة.كما كانت آمال لينين من الثورة الروسية مختلفة، والعديد من الثوار الفرنسيين أيضاً كانوا قد أُصيبوا بخيبة أمل كبرى، وكانت الثورة قد ابتلعت الكثير من فلذات كبدها.وأغوار التاريخ السحيقة معبّأة بالأمثلة الشبيهة، علماً بأن محللي المشكلة كانوا يتحركون بإيمان لا يتزعزع ووعي تام.وهذا ما يعني أنه ثمة أمور ناقصة وخاطئة في تجارب تعريف وتحليل المشكلة الاجتماعية، حتى تمّت معايشة الانحرافات الفادحة، بل والتطورات المعاكسة أيضاً.أي أن المسألة، ومثلما ذكرنا تكراراً ومراراً، ليست قلة الجهد أو التمرد أو الحرب، فكل ذلك موجود، بل وربما يزيد كثيراً.هذا النوع من المبررات يحثني على توخي الحيطة والحذر الفائق في موضوع تعريف وتحليل المشكلة الاجتماعية.وإن كنا نعي كيفية استخلاص العِبر من التجارب المخاضة، وتقدير ذكر البطولات الجسيمة، فينبغي أن تكون الخطوات التي سنخطوها مفعمة بالعِبر والاحترام.
يتبع …