الدفاع المشروع
السلام الخاوي من الدفاع الذاتي، ربما يعبر عن الاستسلام والعبودية. اما الألعوبة المسماةُ بالسلام الخالي من الدفاع الذاتي، بل وحتى بالاستقرار الديمقراطي والوفاق، والتي تفرضها الليبرالية في راهننا على الشعوب والمجتمعات؛ فلا تعبر سوى عن مواراة هيمنه الطبقة البورجوازية بالقوة المسلحة الغارقة فيها حتى الحلق بشكل احادي الجانب. اي انها تسيير مقنع لحاله الحرب.
الدفاع المشروع
عبدالله أوجلان
تاريخ الطبع كانون الثاني 2023
منشورات اكاديمية عبدالله اوجلان للعلوم الاجتماعية
وعوضا عن الهدف الى الدولة، فسيكون من الانسب الهدف الى الديمقراطية في واقع الحل الراهن. ورغم وجود البعد الوطني، الا ان الاصح هو ان تحارب الشعوب بالتحالف مع بعضها البعض في سبيل تحقيق التكامل الديمقراطي تجاه المحتلين واذيالهم واعوانهم المتحركين معا في القمة. من ضروري في هذه الحالة تطبيق الاشكال العملياتية السليمة الاخرى لأخر درجه. يجب ان يكون الاساس هنا هو تنظيم وتسيير الدفاع المشروع بغرض مؤازره دمقرطة الشعب، وتطويرها وصونها. يجب عدم النسيان انه ثمة معنيون بالحل الديمقراطي، حينما يكون النجاح الخفي للقتاليين القمعيين هو المستهدف. اذ لا يكمن ان تكون مواجهه الدولة برمتها والوطن المعني بكامله استراتيجية صائبة. وعلى الصعيد التكتيكي أيضا”، ليس من الصحيح استهداف كل قوه اجنبيه غربيه او مؤسسات وافراد القومية المحتلة بأجمعهم. الاساس هنا هو الحد من نطاق القوى المستهدفة قدر الامكان، للحصول على النتيجة المرجوة، وزيادة فرص الحل الديمقراطي للشعب، وصون وجوده وكيانه. قد تكون الوسيلة الاولية للخروج من الازمه الحالية هي التكثيف والاستمرارية في حركه الدفاع المشروع، وتنظيمه الى ان تقتنع القوة المتسببة في الاحتلال والعقم باستحالة استمرارها في الحرب الباطلة التي تشنها، والى ان تجذب الى درب الحل الديمقراطي اللازم. من غير الممكن قضى الطرف عن مشكله الشعوب في الدفاع الذاتي في الظروف الاعتيادية، عدا حالات الطارئة. يتسم الامن الذاتي في ظروف الازمات بأهمية تضاهي ما للأمن العام منها. ليس بمقدور معايير الامن الكلاسيكية للدولة تلبيه احتياجات الامن لدى الشعب من جهات متعددة. واستيلاء الطغمة الأوليغاشية والقوة الديكتاتورية على سلطه الدولة، يفند الضمان القانوني المحدود الموجود، ويقضي عليه. وتتقطع الدولة الى اقسام واجزاء. ويتكاثر في اقصاها عدد ضخم من اصحاب المافيا والعصابات التابعة للبؤر الدولتية. وتهب نفحة الارهاب التام على رؤوس الشعب. ويحصل الانفجار في الجرائم المرتكبة. وكل ما جرت البحوثات فيها تصان القوى الناطقة والمتحركة باسم الدولة، عوضا عن سلوك الطرق القانونية. ويتحول القانون الى حاله اشبه بالسلعة، وتغدو قوى امن الدولة بذاتها مشكله امنيه. مقابل مثل هذه المشاكل الامنية المعاشة اليوم في العديد من البلدان في مرحله الازمة، يغدو الدفاع عن الذات ضرورة لا مهربه منها؛ حيث يتطلب _بالتأكيد _تشكيل قوات الدفاع الذاتي. اذ ما آلَ المجتمع الى حاله يعجز فيها عن تشكيل وتفعيل مؤسساته الاخلاقية والسياسية اللازمة الاستمرار بكينونته، فهذا يعني انه أقحم في مكبس القمع والاستغلال. وهذا الوضع هو “حالة حرب.” من هنا، فبالإمكان تعريف التاريخ على انه “حاله حرب” المدنيات ضد المجتمع. عندما لا تقوم الاخلاق والسياسة بوظيفتهما، فهذا يعني انه لم يتبقى سوى شيء واحد فقط باستطاعة المجتمع القيام به، الا وهو الدفاع الذاتي. فحالة الحرب هي حاله غياب السلام. بالتالي، لا يمكن للسلام ان يكتسب معناه، الا بالتأسيس على الدفاع الذاتي.
والسلام الخاوي من الدفاع الذاتي، ربما يعبر عن الاستسلام والعبودية. اما الألعوبة المسماةُ بالسلام الخالي من الدفاع الذاتي، بل وحتى بالاستقرار الديمقراطي والوفاق، والتي تفرضها الليبرالية في راهننا على الشعوب والمجتمعات؛ فلا تعبر سوى عن مواراة هيمنه الطبقة البورجوازية بالقوة المسلحة الغارقة فيها حتى الحلق بشكل احادي الجانب. اي انها تسيير مقنع لحاله الحرب. اما اظهار السلام المجرد من الدفاع الذاتي على انه سلام حقيقي، فيتجلى كمحاولات حثيثة تبذلها هيمنه راس المال الايديولوجية. اما تاريخيا، فيعبر السلام عن ذاته بأشكال اكثر اختلافا تحت اسم” المصطلحات المقدسة”. والاديان عموما حافله بهكذا مصطلحات، ونخص بالذكر الاديان المصبوغة بالطابع الحضاري. لا يمكن لاستتباب السلام ان يكتسب معناه الحقيقي، الا في حال تفعيل الدفاع الذاتي للمجتمعات، وبالتالي لدى صون وضمان طابعها الاخلاقي والسياسي. ونخص بالذكر السلام الذي استلزم جهدا دؤوبا وعظيما من قبل ميشيل فوكو لتعريفه، والذي لا يمكن ان يتحلى بتعبير مجتمعي مقبول الا بهذا المنوال. واي سلام محمل بمعان اخرى خارج ذلك، فانه لن يعني أكثر من كونه فخا منصوبا باسم كل المجموعات والشعوب، واستدامه لحالة الحرب بأشكال مغايره مستورة. ان مفرده السلام متخمه بالمصائد في كنف ظروف الحداثة الرأسمالية. بالتالي، فاستخدامها محفوظ بالمخاطر ما لم تعرف على نحو سليم. وإذا ما عرفناه مره اخرى، فالسلام لا يعني زوال حاله الحرب كليا، ولا حاله استتباب الامن والاستقرار وغياب الحروب في ظل تفوق طرف واحد. اذ ثمت أطراف عديده في السلام. والتفوق الحاسم لطرف واحد ليس واردا، ويجب ألا يكون كذلك. ثالثا”، ينبغي اسكات صوت السلاح على اساس رضا المجتمع، وبموجب اليه مؤسساته الاخلاقية والسياسية الذاتية. هذه الشروط الثلاثة هي ارضيه السلام المبدئي. ولن يعبر السلام الحقيقي عن اي معنى، ما لم يستند الى هذه الشروط المبدئية. لا ريب في وجود حدود لأوطان الشعوب والامم. لكن تشكل تلك الحدود والدفاع عنها ضمن مفهوم العصرانية الديمقراطية مغايرٌ كليا لما عليه في عقليه الدولة القومية. فالحدود في هذا المفهوم ليست تعصبا للملكية. بل هي خط التضامن والصداقة والكيانات الاجتماعية العليا، التي يتحقق فيها أكثر اشكال التعاون والتشاطر والتبادل والتركيب الثقافي الجديد حيويا وازدهارا مع الجوار. هذه الساحات التي غالبا ما تتحقق فيها تعدديه الامم والثقافات، هي الحلقات الخلاقة التي تتخمر فيها الثقافة والحضارة بمستوى ارفع ويسودها السلم والاخوة، لا النزاع والحروب. والحدود التي طالما احتضنت هكذا نشاطات في التاريخ، قد تحولت في ظل الحداثة الرأسمالية الى خطوط شهدت أكثر العداوات والحروب. فزرعت الالغام في كبدها، وصيرت منيعة على تخطيها بسبب الاسلاك الشائكة والجدران الشاهقة. لقد جرى تحويلها الى جدران سجن تحبس فيه الشعوب والامم. اي أن الشعوب والامم التي تحيا ضمن تلك الحدود لا تصان. بل توضع في قفص حديدي. وتصبح اسيره. وتجند بالإرغام. وتصير عاطله عن العمل او يدا رخيصة. كما تتعرض الإثنيات والشعوب والامم الباقية خارج إطار الامه الحاكمة رسميا الى عمليات صهر واباده تطال ثقافاتها وتقاليدها. ان ما يكمن في حقيقة حدود الدولة القومية مضمونا هو منافع راس المال واحتكارات السلطة التي لا تعرف الحدود.
ان الامر المهم هنا الذي يجب ان تخلقه وحدات المجتمع المنظمة والواعية التي تهدف الى سد الحاجه التي يتم الشعور بها حول اي موضوع او مجال، هو خلق المجال الثالث كي يتم تجاوز المجتمع والدولة التقليديتين، ويقصد بالمجال الثالث المفهوم السياسي والتطبيقي الذي لا يقف الى جانب المجتمع والدولة القديمين كما لا يقف ضدهما، ولا يعطي الفرصة للوقوع في وضع يعمق المأزق عن طريق المواجهات المستمرة والذي حل التناقض بين مستوى الوعي والحرية الذي سيتحقق في داخل الدولة والمجتمع اللذين لم يحققا تحولا بسبب قصورهما، فقديما كان يتم التحول اما بواسطه النظرة الرسمية للدولة وممارساتها التي تقضي على المجتمع القديم، او كانت تتم محاوله تشكيل مجتمع جديد عن طريق القضاء على الدولة بواسطه النظرية وممارساتها، اما نظريه المجال الثالث وممارساتها، فتعتمد على تشكيل المجتمع الجديد عبر وعي ومنظمات هذا المجتمع الضرورية، وضمن التوازنات العالمية القائمة والحد الادنى من الشروط الديمقراطية، حيث يتم العمل ضمن هذا المفهوم من اجل تحقيق التحول ضمن جو من التطور والسلام عن طريق خلق البديل في احشاء القديم، وليس عن طريق المواجهات والهدم، اما اذا تم سد هذا الطريق فسيتم العمل من اجل تحقيق النتيجة نفسها عن طريق الدفاع المشروع ويتم ازاله الخطأ باستخدام هذا الحق. فالدفاع عن النفس حق مقدس لأجل كل مجموعه اجتماعيه. والتمتع بقوه الدفاع ازاء كل انواع الاعتداء على وجود المجموعة وقيمها التي يتأسس عليها وجودها، انما يتخطى نطاق الحق، ليغدوا سبب الوجود نفسه. إني على قناعه استحاله نعت قوه الدفاع بمعناها الكلاسيكي بالسلطة. قد يكون من الانسب تسميتها بقوه او اقتدار الدفاع الديمقراطي. وعندما اضع نصب العين كيف تسعى الوردة (وهي نبته) للدفاع عن نفسها بأشواكها، فاني لا اتمالك نفسي من تسميه براديغما الاقتدار الديمقراطي هذه ب”نظريه الوردة” .
اما الوظيفة الاساسية للاقتدار الديمقراطي، فتتجسد في الدفاع عن وجود الاشخاص والمجموعات المعنية، وعن كافه القيم المادية والمعنوية التي يتعلق وجودهم عليها، سواء بشكل مباشر ام غير مباشر؛ وعدم التقاضي عن الاستيلاء عليها، واستردادها في حال كونها مسلوبة ؛وما الى هنالك من الحالات الايجابية والضرورية والمحقة التي يصعب الاستغناء عنها. بموجب هذا المضمون، فالاقتدار الديمقراطي هو فن التطبيق العملي تأسيسا على ذلك. وفيما يخص فحواة، فسيكون من الاصح القول بانه قوه ردع السلب والسطو، وعمليتها الفنية. ثمت فرق انطولوجي (وجودي) بين انشطه او فنون استخدام القوه (الجيش_ الحرب), والتي تشاهد في حالات الاعتداء على الوطن الام، وبين حالات صد هذا الاعتداء. فكلاهما اصطلاحان متنافران. ويعبر المجتمع بالمقابل عن مثل هذه الحالات المتضادة على شكل ثنائيات: الفضيلة_ الرذيلة، الثواب_ العقاب، الصح_ الخطأ، الحق_ الباطل، والجميل _القبيح .
يتبع …