الأيكولوجيا
لم ينتهِ المجتمع الطبيعي في أي وقت من الأوقات، ولم ينفذ رغم تغذيته لمضاداته، بل تمكّن من إيجاد نفسه على الدوام. ورغم كل التخريبات، لم ينقص من وجوده كإثنيّة، كركيزة صلبة للعبيد والأقنان، كأرضيّة خصبة لتجاوز التمايز الطبقي العمالي، وتنامي المجتمع الجديد كمجتمع بدوي متنقّل بين البراري والأدغال، كعائلة قروية حرّة أو كأسرة بكيان الأم، وكأخلاق نابضة بالحياة في المجتمع.
الأيكولوجيا
منشورات اكاديمية عبد الله اوجلان للعلوم الاجتماعية
الخلاصة التاريخية للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع
يتجسد أحد أهم النواقص الأساسية لعلم الاجتماع في عدم إشارته إلى الذروة الأخرى (القرين، الشريك) للمجتمعات الهرمية والمنطوية بالدولة، والتي يجب أن تمر بثنائية جدلية بطبيعة الحال على مرّ التاريخ. وكأنّ التاريخ عبارة عن سياق تطور خالٍ من التناقضات ويتقدم على الخط المستقيم للنظام الاجتماعي المهيمن. فمثلما شوهد في كل تطور ظاهراتي، يتطور المجتمع الهرمي والدولتي أيضًا ضمن تناقض مع القيم المجتمعية الطبيعية، التي تلعب دور النقيض، وهو ينمو ويتطور ويتنوع بالتغذية عليها. من الضروري عدم الاستهانة بقوة المجتمع الطبيعي، ذلك أنه يلعب دور الخلية النواة الأم. ومثلما تولد جميع خلايا النسيج من الخلية النواة، تتولد المؤسسات المشكلة لنسيج المجتمع الطبيعي منه أيضًا. وكما تولد الأعضاء والأجهزة والنظم من النسيج، تولد الأجهزة والنظم المجتمعية المتطورة الأخرى من المؤسسات البدائية (المؤسسات الهرمية البدائية) للمجتمع الطبيعي. قد يُكبت المجتمع الطبيعي، ويُحصر، ويُقحم في الشرك، ويُطوّق، ولكن لا يمكن إفناؤه أبدًا؛ ذلك أنه يخرج حينها من كونه مجتمعًا. وعجز علم الاجتماع عن تثبيت هذه الواقعة نقصانٌ هام لا يُغتفر، مما يغذي الهرمية والدولة، هو حقيقة تكوُّن المجتمعات الطبيعية على مرِّ ملايين السنين، وإلّا فكيف بإمكان الثنائيّة الديالكتيكية أن تتولّد؟ إنّ القيام بالتحليلات المجتمعية بوسائل طبقية أو اقتصادية ضيّقة يعني ترك أصل الحقيقة وعُضوها الأولي على الهامش منذ البداية. هذا هو الخطأ والغلط الفادح المرتكب.هذا، وناهيك عن نظرة مدرسة الماركسية ذات التوجّه الطموح إلى المجتمع الطبيعي الذي سمّته بـ “المشاعي”، وكأنه نظام انتهى عمره وزال من الوجود منذ آلاف السنين، والتي أثارت هذا الموقف السلبي وأجّجته أكثر.لم ينتهِ المجتمع الطبيعي في أي وقت من الأوقات، ولم ينفذ رغم تغذيته لمضاداته، بل تمكّن من إيجاد نفسه على الدوام. ورغم كل التخريبات، لم ينقص من وجوده كإثنيّة، كركيزة صلبة للعبيد والأقنان، كأرضيّة خصبة لتجاوز التمايز الطبقي العمالي، وتنامي المجتمع الجديد كمجتمع بدوي متنقّل بين البراري والأدغال، كعائلة قروية حرّة أو كأسرة بكيان الأم، وكأخلاق نابضة بالحياة في المجتمع.وعلى عكس ما يُظن، فالقوة الدافعة لتقدّم المجتمع ليست النضال الطبقي الضيق فحسب، بل والمقاومة العظمى للقيم المشاعية المجتمعية. من غير الصحيح إنكار النضال الطبقي، لكنه ليس سوى أحد ديناميكيات التاريخ. أما الدورة الرئيسة فمنوطة دائمًا بالرحل المتنقلين بين الغابات والجبال والبراري المجدبة، والذين عاشوا على شكل حركات إثنية أو قبلية أو شعبية. السؤال الواجب طرحه والرد عليه أولاً هو: كيف يجب أن يكون إطارنا النظري، عمّا يمكن أن يتمخض البقاء بلا نظرية؟ إلى أين تؤول بناء النظريات الخاطئة والناقصة؟ كيف يجب أن تكون مزايا الإطار النظري القدير والمناسب للأهداف المرجوة؟إلى جانب كون “الموضة” لفظًا متداولًا، إلا أن الصحيح جوهريًا هو ما يُقال بأننا في عصر “مجتمع المعلومات”. ما يُقصد بهذا اللفظ هو أنه من الصعب إيجاد الحلول لأبسط الظواهر وإدارة شؤونها بدون قوات المعلومات، فما بالك بالظواهر ذات المشاكل الشاملة من حيث المعنى والبناء من قبيل التحول المجتمعي؟ أما محصلة السير بحفنة من الحلول البسيطة، فهي الخسران بالأرجح، في حين أن الانتصار التصادفي يتضمن في كل لحظة مهالك، تجر بصاحبها إلى الهزيمة والفشل، عاجلًا كان أم آجلًا.وبالنسبة للحياة والمسير المألوفين، فلا يفيدان سوى باضمحلال معنى الحياة الحقة وزواله تدريجيًا. فالحياة الحقة ليست مجرد السير، بل والسير الدؤوب الأقصى. من هنا، بعدم تنوير مساعي التحول الأساسية أو توجيهها بإرشادات نظرية قديرة ومناسبة للأهداف، في مجتمعات الأزمة، سيصعد من احتمال ذهابها هباء أو تمخضها عن نتائج معاكسة بنسبة كبيرة.تتأتى مشاهدتنا للتكاثفات الفكرية العظيمة في مثل هذه المراحل من التاريخ من مثل تلك الخصائص للواقع المعاش، وللسبب ذاته، نشهد بروز المدارس الفكرية والعقائدية العظيمة لدى ظهور الحضارات أو قبيل وبُعيد تشكل الأنظمة الجديدة.من المهم بمكان التركيز، وبكثافة، على الفلسفة الماركسية-اللينينية، باعتبارها طبعت تقاليد المعارضات بطابعها في القرن العشرين. وبالنسبة لي شخصيًا، كان من الواجب إدراك مدى استحالة قطع المسافة دون وضع اليد على الخطأ الأساسي بهذا المفهوم، الذي أثّر على شخصيًا أكثر من غيره من المفاهيم، قبل مرور سبعين عامًا عليه.إنني أنظر إلى تشكيل مفهومي بصدد النظام الذي سعيت لإصلاحه بالمجتمع الديمقراطي والإيكولوجي، خارج نطاق سلطة الدولة أساسًا، بأنه خلاصة سلوكي النظري، ويتجسد مضمون إرشادات النظرية في البحث عن الحل خارج نطاق كافة سلطات الدولة الهرمية الكلاسيكية المتواجدة في المجتمعات الدولتية، وليس خارج دائرة مفهوم سلطة النظام الرأسمالي فحسب. وكونه سلوكًا نظريًا مرتبطًا بالواقع المجتمعي لأبعد الحدود، وليس سلوكًا خياليًا أو طوباويا كما يُظن، فإنني أعتبره أهم مكسب لي في كفاحي، إلى جانب دور أرضيتي الشخصية والمجتمعية في بلوغه.القوة والكفاءة النظرية، إلا أن المؤثر الأساسي هو قدرتي على تفهم المجتمع التاريخي ضمن كافة البناء النظامية. أما ما يستتر وراء فهمي هذا، فهو خصائص النضال والكفاح الذي خضته، ونجاحي في التحلي بروح المسؤولية.لا جدال حول مكانة فترات الانزواء، والسجون، والخِيانات، والمخاضات المستمرة لمدة عشرات السنين، في تشكل الأديان الكبرى، والمدارس الفكرية العظيمة، ولقيم المجتمع الطبيعي، والإثنيات، وصراع الفقراء من أجل الوجود أيضًا، مكانة لا غنى عنها في بنية التفكير هذه.ساطعٌ سطوع النهار أن أساسنا التاريخي لن يكون بفهم التاريخ بأنه تأصّل الأحداث الهامة وتجاذرها حول السلطة السياسية، لكن هذا السلوك قد يتسم بقيمة معينة في استيعاب النظام القائم ككل متكامل، واستنباط الدروس منه. فالإثنية هي قوة الصمود والتحمّل على مدى آلاف السنين، رغم كافة أنواع الهجمات الضروس والمصائب الطبيعية. وما خلقته كان عبارة عن المقاومة والصمود بثقافتها وملاحمها ولغاتها وقيمها وأخلاقها الإنسانية الشفافة والأصيلة.من أكثر المشاكل التي يدور حولها جدل، هي احتمالات الأنظمة الممكن ظهورها من أزمة الرأسمالية.لقد سادت أزمة ملحوظة بعد الحرب العالمية الأولى، وقيام الثورة البلشفية منوط عن كثب بتحليلات لينين بهذا الصدد. كان اندلاع الحرب العالمية الثانية يشير إلى أنّ الأزمة لم تنتهِ بعد، بل تتسم بالسيرورة.ولمّت الرأسمالية قواها لتقوم بقفزة بارزة مع الثورة العلمية التقنية الكبرى الثانية. لكن هذه الحملات القصيرة المدى بقيت عاجزة عن تحقيق تشعّب وتوسّع تصدّعات الأزمة في النظام السائد. ومع انهيار السوفييتات بعد السبعينات، ناهيك عن تخفيف أزمة النظام، بل زادت تعقيدًا ووطأة. وبذلك بُرهن على أن التجربة السوفييتية قد خففت من عبء النظام موضوعيًا.وانتعشت الحلول المناوئة للنظام السائد، والتعاليل الليبرالية الحديثة لحلول الأزمة مرة أخرى في هذه المرحلة. فهل الليبرالية الحديثة حقًّا كاريكاتور للماضي، أم أنها -كما زعمت- حداثة حقيقية باسم العولمة؟ بينما يدور الجدل بأقصى سرعته بهذا الصدد، فرضت البدائل التي طرحتها الشعوب نفسها أكثر فأكثر، بعيد أزمة الاشتراكية المشيدة.إلى أين كان يؤول النظام المنحصر بين أمريكا، أوروبا، واليابان؟ وإلى أين كانت تفضي التقطّبات المجتمعية المتزايدة، والصراع الشمالي-الجنوبي؟كانت التيارات البيئية، والفامينية، والثقافية الطابع بالأغلب، تبرز كعناصر جديدة. وكانت حقوق الإنسان، وقيم الحل للمجتمع المدني، تتزايد وتتزايد، في حين كان اليسار منهمكًا في تحديث ذاته. كيف كانت جدالات الدائرة ترتأي العالم المرتقب؟ سواء في نقاشات منتديات كلوبات فقراء بروتو -اللاگرا، فإن المستوى الضحل لتلك الجدالات لم يذهب أبعد من إنقاذ اليوم المعاش، ذلك أن الرؤية المستقبلية النظرية والمنظمة كانت غائبة في كلا الطرفين على السواء.لقد كانت الحركة المنهاجية والمخططة محدودة النطاق. باختصار، لم تكن معلومات الموالين للحرية والمساواة من أجل المجتمع، ولا بناهم، تشير إلى القدر الكافي للنفاذ من الأزمة بنجاح. كان من الضروري عدم الوقوع في أخطاء مشابهة هذه المرة، إذا كان لا يُراد -حسب الزعم- الاختناق في مياه التيار الجديد المسمى بالليبرالية الحديثة، بعد أن تمكنت الليبرالية من امتصاص وجذب موجات العديد من الثورات المندلعة إلى مياهها، وفي مقدمتها ثورات 1848، 1871، 1917، والتي شاهدها التاريخ الحديث باسم الكادحين والشعوب. ما هو مطلوب ولازم، كان عبارة عن قدرة اكتساب المعلومات الصحيحة، إعادة إعمار المجتمع، وإيجاد الصياغات الناجحة لذلك. نخص بالذكر هنا خيارات الشعوب التي كان يجب أن تجد معناها، وأن تنوّر بنيتها، في منطقة الشرق الأوسط التي تكاثفت فيها التناقضات مع مرور الأيام، وشهدت الأزمات والاشتباكات الطائشة والمتهورة. كان على الشعوب إعداد خياراتها إزاء الحملة الأمريكية الجديدة، المسماة بأزمة 11 أيلول، والمتسمة بماهية تآمريه غائرة الأعماق. كان يجب أن تكون خيارات تجعلها لا تقع مرة أخرى في الأخطاء والمقالات الجذرية، ولا تصبح رقعة لبُنى النظام المهترئ. لقد كان التاريخ ينتظر منها ردًّا متواضعًا، ولكن جديًّا وغير مخادع في نفس الوقت، حيث كان يوصد أبوابه كليًّا أمام التكرارات المجربة التي لا أمل منها.السؤال الواجب طرحه والرد عليه أولاً هو: كيف يجب أن يكون إطارنا النظري، عمّا يمكن أن يتمخض البقاء بلا نظرية؟ إلى أين تؤول بناء النظريات الخاطئة والناقصة؟ كيف يجب أن تكون مزايا الإطار النظري القدير والمناسب للأهداف المرجوة؟إلى جانب كون “الموضة” لفظًا متداولًا، إلا أن الصحيح جوهريًا هو ما يُقال بأننا في عصر “مجتمع المعلومات”. ما يُقصد بهذا اللفظ هو أنه من الصعب إيجاد الحلول لأبسط الظواهر وإدارة شؤونها بدون قوات المعلومات، فما بالك بالظواهر ذات المشاكل الشاملة من حيث المعنى والبناء من قبيل التحول المجتمعي؟ أما محصلة السير بحفنة من الحلول البسيطة، فهي الخسران بالأرجح، في حين أن الانتصار التصادفي يتضمن في كل لحظة مهالك، تجر بصاحبها إلى الهزيمة والفشل، عاجلًا كان أم آجلًا.وبالنسبة للحياة والمسير المألوفين، فلا يفيدان سوى باضمحلال معنى الحياة الحقة وزواله تدريجيًا. فالحياة الحقة ليست مجرد السير، بل والسير الدؤوب الأقصى. من هنا، بعدم تنوير مساعي التحول الأساسية أو توجيهها بإرشادات نظرية قديرة ومناسبة للأهداف، في مجتمعات الأزمة، سيصعد من احتمال ذهابها هباء أو تمخضها عن نتائج معاكسة بنسبة كبيرة.تتأتى مشاهدتنا للتكاثفات الفكرية العظيمة في مثل هذه المراحل من التاريخ من مثل تلك الخصائص للواقع المعاش، وللسبب ذاته، نشهد بروز المدارس الفكرية والعقائدية العظيمة لدى ظهور الحضارات أو قبيل وبُعيد تشكل الأنظمة الجديدة.من المهم بمكان التركيز، وبكثافة، على الفلسفة الماركسية-اللينينية، باعتبارها طبعت تقاليد المعارضات بطابعها في القرن العشرين. وبالنسبة لي شخصيًا، كان من الواجب إدراك مدى استحالة قطع المسافة دون وضع اليد على الخطأ الأساسي بهذا المفهوم، الذي أثّر على شخصيًا أكثر من غيره من المفاهيم، قبل مرور سبعين عامًا عليه.إنني أنظر إلى تشكيل مفهومي بصدد النظام الذي سعيت لإصلاحه بالمجتمع الديمقراطي والإيكولوجي، خارج نطاق سلطة الدولة أساسًا، بأنه خلاصة سلوكي النظري، ويتجسد مضمون إرشادات النظرية في البحث عن الحل خارج نطاق كافة سلطات الدولة الهرمية الكلاسيكية المتواجدة في المجتمعات الدولتية، وليس خارج دائرة مفهوم سلطة النظام الرأسمالي فحسب. وكونه سلوكًا نظريًا مرتبطًا بالواقع المجتمعي لأبعد الحدود، وليس سلوكًا خياليًا أو طوبويًا كما يُظن، فإنني أعتبره أهم مكسب لي في كفاحي، إلى جانب دور أرضيتي الشخصية والمجتمعية في بلوغه.القوة والكفاءة النظرية، إلا أن المؤثر الأساسي هو قدرتي على تفهم المجتمع التاريخي ضمن كافة البناء النظامية. أما ما يستتر وراء فهمي هذا، فهو خصائص النضال والكفاح الذي خضته، ونجاحي في التحلي بروح المسؤولية.لا جدال حول مكانة فترات الانزواء، والسجون، والخِيانات، والمخاضات المستمرة لمدة عشرات السنين، في تشكل الأديان الكبرى، والمدارس الفكرية العظيمة، ولقيم المجتمع الطبيعي، والإثنيات، وصراع الفقراء من أجل الوجود أيضًا، مكانة لا غنى عنها في بنية التفكير هذه.ساطعٌ سطوع النهار أن أساسنا التاريخي لن يكون بفهم التاريخ بأنه تأصّل الأحداث الهامة وتجاذرها حول السلطة السياسية، لكن هذا السلوك قد يتسم بقيمة معينة في استيعاب النظام القائم ككل متكامل، واستنباط الدروس منه.
يتبع …